تريم الغناء
حضرموت .. التي لم يخلق مثلها في البلاد (4)
- نبيل الحسني
- إحترت كثيراً عند مفترق الطرق في ( الغُرَف) بين " تَرِيم " أوالذهاب إلى " ساه " حيث مباني "مَشغة " المثلثة و ( مشوار ) معبد الإله السبئي ( سين ) في " سونه " وبقية مدن وادي " عَدِم " الغارق في الحياة.. كانت تريم أكثر إلحاحاً فهي المدينة التي تأسست قبل الميلاد بقرون وكانت عاصمة حضرموت أيام لبيد بن زياد الأباضي عامل الخلفاء الراشدين ثم عاصمة العلم والفن حتى الآن.
كل مكان في حضرموت يشير إلى تريم " فالتهويدة " الإعلان عن موسم زيارة النبي هود يكون من تريم ليلة 27 رجب وقباب الأولياء التي تبهرك بناها تريمي والتوابيب المزخرفة صنعها تريمي والمآذن البديعة أقامها تريمي والقصور الفخمة تأنق في إنشائها معلم من تريم والطرق المرصوفة بالحجارة اختصاص تريمي وبساتين التخيل والنارجيل والمعاجن تشير إلى الفضاء تريم فإن وجدت نقشاً سبيئاً أو حميريا حدثك عن تريم وإن سمعت دانا حضرميا حضرك أبو بكر سالم بالفقيه التريمي وإن رددت مع امرئ القيس
دمُّون إنا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون
خاطبت تريم وإن تلوت سيرة عالم حضرمي وجدت تريم في سطور سيرته الذاتية وإن تحدثت عن المغتربين الحضارم فتريم مرسومة علىقسمات وجوههم تريم مدينة وزعت نفسها على حضرموت أو جمعت فيها كل حضرموت..
تقف بين يدَي تريم فإذا نظرت إلى جزءها الشرقي ورأيت كوت " الدُّوَيل " وكوت
" نافي " يطلان على دمون كصقرين سمعت أم الصريخ الكندية الحضرمية تصف بنيها:
أبو أن يفروا والقنا في نحورهم
وأن يرتقوا من خشيـة الموت سلما
ولو أنهم فروا لكانوا أعزة
ولكن رأوا صبراً على الموت أكرما
ورأيت معن بن زائدة الشيباني يجرجر أ ذيال الهزيمة وعبد الرحمن بن يونس يقول له:
يا معن أصبحت في بيداء مظلمة
من بعدما كنت بين الناس مختـالا
حتى أتاك بن عمرو في أطامره
قـد جاشم الصبر أحوالاً فأحـوالا
حتى سقـاك بها كأساً معتّـقة
من شربة جعلت في الصدر أنكالاً
وإذا تتبعت سور النخيل غربا فستنتقل إلى " شعب عِيديد " جزء المدينة الغربي معبد الجمال ومحراب التقى وسجل التاريخ وسحر الطبيعة.
سلمت على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين استشهدوا في حروب الردة ودفنوا في "بشّـار " مقبرة تريم بعد أن سمح لي حارس المقبرة الذي طلب مني أولاً أن ألقي بسيجارتي والقات الذي في فمي بعيدا وأتمضمض فهذه مقبرة أناس طاهرين يقصدها الناس للتبرك بالصحابة والأولياء المقبورين فيها يبخّرون القباب ويضعون أغصان الريحان على قبور ذويهم وهم يقرأون فاتحة الكتاب وآية الكرسي.
توجهت بعدها إلى جامع تريم الذي بنى قبل ألف عام وظل برباطه قبلة طلبه العلم على مرور السنين وفي عام 1972م أنشئت في الدور الأرضي منه مكتبة الأحقاف من مجموعة مكتبات أهلية لكل من آل الكاف وآل يحيى وآل بن سهل وآل الحداد ورباط تريم وآل الحسيني والعيدروس من الحزم ومكتبة السلطان القعيطي في المكلا ومصادر أخرى وهي تحوى أكثر من 6200 مخطوطة في التفسير والحديث والفقه والتصوف والتراجم والسير والتاريخ واللغة والطب والمجاميع (مخطوطات تحوي أكثر من نص وموضوع" يعود معظم هذه المخطوطات إلى القرن العاشر والحادي عشر الهجري ومن أقدم المخطوطات فيها نسخة من البيان في تفسير القرآن الجزء الخامس لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي نسخت عام 595هـ بخط نسخ مهمل ونسخة من الجزء الثاني من كتاب القانون في الطب لابن سيناء نسخت سنة 633هـ وبها حواشي منقولة من نسخة المؤلف ونسخة لخمسة أجزاء من الدر المنثور في التفسير للجلال السيوطي نسخت عام 897هـ بالخط المملوكي المذهب وعليها إجازات بخط المؤلف ونسخة من جزئين بخط بديع مذهب لكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض نسخت سنة 763هـ إضافة إلى 1600 مطبوعة.
لقد كانت المدينة بلد العلم في هذه المنطقة كما هي زبيد قلعة الفقه الشافعي وذمار كرسي الزيدية وجبلة قلعة اللغة والأدب وذلك بسبب كثرة المساجد والأربطة فيها فقد أطلق عليها مدينة 360 مسجد أو مدينة صلاة الجماعة فكثرة المساجد فيها تقطع كل عذر لترك الجماعة ولا يزال فيها رغم صغرها أكثر من مائة مسجد تتحلق حول مئذنة مسجد المحضار وهي تشير إلى السماء بشهادة التوحيد ويصدح فيها بالتكبير من على (175) قدما أسسها على التقوى عمر بن الرحمن السقاف وصممها على ذلك الطراز الفريد خيال الشاعر المشهور والعالم الكبير أبو بكر بن شهاب المتوفى سنة 1340 هـ صاحب النظرية المعمارية التي تقول :
كل بيـت بثـلاث يـزدهي في عيون المكتري والمشتري
الهـوا والنـور في داخـله ومن الخارج حسـن المنـظر
وأتقن وضع اللبنات في صرحها وتأنق في زخارفها المعلم "عوض سلمان بن عفيف التميمي" وهكذا اجتمع خيال الشاعر وإبداع الفنان وجلال التقى ليصنعوا من الطين تحفة فنية تناطح السحاب في وقت كانت فيه "منهاتن" مجموعة من العشش كما يتخيله غروري وأنا أشاهد هذه المئذنة وكل فتاة بأبيها معجبة.
هذه المئذنة بجمالها وجلالها لا تلغي نفحات الجمال والإبداع في المآذن الصغيرة للمساجد الأخرى فكل منها لوحة متميزة لها قراءتها الخاصة وليست المآذن والقباب هي وحدها ما أبدعته عبقرية الفنان التريمي فكما تأنقوا في إظهار حبهم لدينهم واعتزازهم به تفننوا بزخارف القصور بأعمدتها ومجسماتها ونقوش شرفاتها ونوافذها وجدرانها وهو أمر يبرز أكثر في قصور آل الكاف في تريم "العشة" "المنيصورة" "دار السلام" قصر القبة " التواهي " وغيرها..خيالي أقصر من أن يستوعب إمكانية تحول الطين إلى كل هذا الحشد من المنمنمات والنقوش التي تكاد تنطق بعظمة الفنان الذي أبدعها آمنت بالذي خلق من الطين بشرا سويا ونفحه ذلك الذوق واليد المبدعة.. إحمل معك البخور والمجامر إذا رغبت في زيارتها فإن روحا بنت هذه القصور على هذا النحو قد خصت من الله بنفحات قدسية ولا تدخل ساحاتها إلا بعد أن تتطهر في مسابح " محسون " وتحمم جسدك بمياهها وروحك بغياض النخيل والنارجيل المحيطة بها وقل كما قال غيرك :
فلو نظرت فلاسفة إليها لقالوا جنة الدنيا تريم
لقد كنت أود لو أن الوقت يسمح للحبيب عمر بن حفيظ بلقاء أطول من السلام عليه وهو خارج عقب صلاة الظهر بين طلابه في دار المصطفى بتريم الذي أسسه عام 1415هـ وتخرجت أولى دفعه عام 1419هـ ويؤمه الدارسون من كل أنحاء اليمن والشام وأندونيسيا وأفريقيا والخليج العربي يتلقون في حلقات المشائخ دروس التفسير والحديث والفقه والسيرة واللغة العربية ويعيشون حياة تصوف وصفاء لمدة أربع سنوات في هذه الدار التي توفر لهم المأكل والمسكن وسبل الاتصال بذويهم من خلال مركز اتصالات وإنترنت وتتبع الدار مدرسة أهلية تدرس مناهج التربية والتعليم كما يقيم الدار دورات لتحفيظ القرآن الكريم فصليه ونصف سنوية..
كان الحبيب عمر قد أسلم يدي مبتسما إلى مدير مكتبه "بالفقيه" ومضى على عجلة من أمره إلى موعده وكان بالفقيه مدير مكتب الحبيب شابا كأن الله براه من الرقة واللطف وغذاه حسن الخلق وطيب المعشر فكان يحدثني مبتسما ويقدم لي نسخة صغيرة من التعريف بالدار معتذراً عن انشغال الحبيب عمر وعدم إمكانية مقابلته إلا في الساعة الخامسة بعد العصر وحين بدأت اوجه إليه الأسئلة حول الدار رد علي بابتسامة ودودة توحي بالحنكة : "ربع ساعة مع الحبيب عمر تغنيك عن كل شيء وترد على جميع استفساراتك " وطلب مني أن أتبعه إلى استراحة صغيرة بسيطة الأثاث شديدة النظافة وفيها شيخان يرتديان البياض لعلهما ضيوفا وطلب مني الانتظار قليلا ومضى , وبسرعة قدم إلينا الغداء وهو طبق من الرز والسمك كان سائق السيارة الذي يرافقني ينظر باستقلال إلى الزاد المقدم فهمست إليه علينا أن نحترم ضيافة الناس لنا وعندما نخرج سنتغدى حتى نشبع" ولكننا قمنا بعد أن شبعنا وما زال في الطبق بعض الرز والسمك وحين نظر إلي مندهشا قلت له هذه هي التي تسمى " البَرَكة " أستأذنت من بالفقيه وتمنيت أن أقدر على العودة لمقابلة الشيخ ومضيت مع دليلي الشاب "صالح هود حسان" أحد طلاب الدار فأراني سكن الطلاب ومكتبة الدار الذي كان يناوب فيها فتى بسنه وقف لاستقبالنا والبشاشة تقطر من وجهه "إنه ابن أخ الحبيب عمر وأحد طلبة الدار"أما أنا فقد حفظته في راسي هو وبالفقيه باسم "إبنا النور " وخرجت من الدار مع طالب الدار الصالح (صالح) الذي تطوع لمرافقتي من سيئون ولا أستطيع أن أثني عليه أكثر من أن أقول أني رأيت صورته في كتاب "صفة الصفوة" لابن الجوزي ..محمد الجيلاني شاب من الأردن يحمل أمتعته من الدار مغادراً إلى بلده وهو يوشك أن يبكي على فراق تريم وإخوانه في دار المصطفى سألته مالذي أتى بك إلى هنا قال: "تريم والحبيب عمر" لم أرجع لمقابلة الحبيب عمر بن حفيظ واكتفيت بصالح وبالفقيه وأبن أخ الحبيب عمر والجيلاني جوابا على أسئلتي وأتمنى على الحبيب عمر أن يجعل شعار الدار ودعاء طلابه في الأسحار قول ابن عطاء الله السكندري :
"اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً حقاً فيه رضاك أبتغي به أحداً سواك.
وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك
وأعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ".
أكثر ماستقرأه على الجدران وأنت تتجول في تريم هو المنشورات الداعية للقضاء على ديكتاتورية " السيسبان " هذه الشجرة التي انتشرت في المنطقة كالسرطان خصوصا في مجاري السيول مسببة فيضانها وتهديد المدن المجاورة ومنها تريم بالخراب
مضيت إلى "ساه" وأنا أقول
يا لله بعودة في سفوح القرن وإلا في شعب عيديد