يا الله ..
ما أسعد المصلين هنا .. وما أهناهم ..
تُـرى .. كيف كنت أمضي حياتي بعيداً عن هذه السعادة ..
انظر ..
ذاك يتجاذب مع جاره أطراف الحديث ..
وآخر يعانق جاراً قدم من سفره ..
وثالث يعين كهلاً للذهاب إلى منزله ..
الله ..
ما هذه الحياة ..
نِعم هؤلاء .. ونِعم ما هم فيه من السعادة ..
----------------
كانت تلك .. بداية البداية لــ[ صالح ] .. ونبوءات ميلاد جديد ..
لتنطلق الحياة الجديدة بأحداثها العجيبة ..
فلصاحبنا أحداث وأحداث ..
كيف ثبت على الطريق ..؟
وهل سيقبل به أصحابه الجدد ؟
وما موقف أهله تجاهه ..؟
---------------
(3)
بدأ [ صالح ] يكثر التردد على الجامع .. فلم تكن صلاة تفوته .. لكنه أحياناً - وخاصة في الفجر - تغلبه عيناه فلا يستيقظ إلا مع بدء اليوم الدراسي .. فيقوم فزعاً .. يصلي الفجر .. ويأخذ حقيبته متجهاً إلى مدرسته الثانوية ..
كانت تلك الأحداث في نهاية العام الدراسي .. وكان معها التغيير ..
وفي المنزل :
لاحظ إخوة [ صالح ] تغيره .. لكن الأمر لم يكن يعني لهم شيئاً .. فالإحساس قد تبلّد من سنين ..
لكن ..
كانت هناك نفس شدّها تغير [ صالح ] .. حيث كان [ راشد ] الأخ والصديق .. بل والحياة كلها لـ [ صالح ] ..
لذا .. كانت الصراحة بينهم شعار ..
اتجه [ صالح ] لـ [ راشد ] ..
قال له : أخي .. ألا تصلي .. ؟؟
[ راشد ] : ماذا ..
كان السؤال مفاجئاً لـ [ راشد ] ..
[ صالح ] : والله يا أخي .. لقد وجدت حياة أخرى في الصلاة والقرب من الله ..
[ راشد ] : كيف .. ؟؟
[ صالح ] : إني والله أعيش أياماً لم أعش مثلها قط .. صدقني يا أخي .. الحياة في المسجد شيء لا يوصف .. والحياة مع الله أمر لا يقدر بثمن .. راحة وأي راحة .. صدقني يا أخي .. عش معنا .. وستجد اللذة الحقيقية ..
[ راشد ] : ولكن ..
[ صالح ] : أبداً يا أخي .. الأمر أيسر مما تتصور .. فقط اعزم .. وسيعينك الله ..
كان تلك الكلمات .. بداية التحول لحياة [ راشد ] و[ صالح ] .. ليصبحا ثنائياً في الخير .. بعد أن أمضيا في الشر سنيناً ..
----------------
ومع بداية الصيف ..
كانت المراكز الصيفية قد فتحت أبوابها .. وبدأت تستقبل الشباب والفتيان ..
كان [ صالح ] كـ كثير من الشباب .. لا يعرف المراكز الصيفية ..
لكنه اطلع على إعلان أحدها ..
شدّه ما فيها من البرامج الممتعة .. واللقاءات الرائعة ..
وأزّه إليها أكثر قرب المركز من بيتهم ..
خاصة وأن [ صالح ] لا يملك سيارة .. وليس لديه وسيلة نقل إلا سيارة أخيه القديمة .. التي تسير ساعة وتتعطل أخرى ..
لكنه .. كابد الصعاب ..
---------------------
قرر [ صالح ] و [ راشد ] الانضمام إلى المركز الصيفي .. والانخراط في برامجه ..
كانت خطوة رائدة في حياتهم ..
فالمركز الصيفي مشروع رائع .. هنيئاً لمن كانت فكرته ..
ومع المركز ..
تغيرت حال الأخوين شيئاً فشيئاً ..
وأحسا بالإيمان يضيء في صدروها ..
يا الله ..
ما أجمل حياة الإيمان ..
وما ألذها ..
تعرف [ صالح ] على صحبة من الأخيار في المركز الصيفي ..
وعلم بعد ذلك أنهم في حلقات تحفيظ القرآن ..
لكنه ..
لم يكن يعلم ما هذه الحلقات ..
عذرا ..
فـ [ صالح ] يعيش بين أظهرنا ..
لكنه كان مغلقاً عن العالم حوله ..
ارتبط [ صالح ] بأحد الشباب ..
أحبه .. وأحب أخلاقه وحسن خلقه ..
وكانت تلك بداية الانطلاقة .. مع أولائك الأخيار ..
----------
(4)
المركز الصيفي .. كان بداية الانطلاقة .. ومشروعاً لحياة جديدة مع كثير من الشباب ..
إنها البذرة الصالحة .. والغرس الطيب .. والتي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ..
سنتجاوز جميع ما حدث في المركز .. لننتقل إلى يوم السبت .. حيث بدأت الدراسة لعامها الجديد ..
كان [ صالح ] يدرك أن هذا العام سيكون مختلفاً عن سابقه .. فحياتي ستكون لله ومع الله .. فما أعظمه من هدف ..
أصبح [ صالح ] يعد الدقائق والساعات وهو ينتظر أول أيام الحلقة .. فهو يسمع عن الحلقات وطلابها .. ويرى ما هم فيه من الخلق والسمت .. لكن .. أن يكون أحدهم فهو ما لم يتصوره طيلة حياته ..
وبعد الصلاة .. انطلق إلى حلقته برفقة أخيه [ راشد ] في سيارتهما المتواضعة .. لكن الهمة .. تصنع أهل القمة ..
دخل الجامع .. وكانت بداية الحياة مع القرآن ..
لقد كان [ صالح ] يحمل همة عالية .. جد عالية .. حيث بدأ الحفظ من سورة ( البقرة ) .. وكان يحفظ القرآن كما أنزل مرتلاً مراعياً أحكام التجويد الصحيح ..
أحس [ صالح ] بنشوة وهو يحفظ كتاب الله .. فهو أمام تحد جديد وصراع شديد نحو هدف عظيم ..لذا .. لم يكن [ صالح ] عادياً ينهي المطلوب منه فقط - كما كان غيره - .. بل كان يجاهد نفسه وينجز كما ينجز الطالب الحافظ لكتاب الله ..
لكن ..
كان أمام [ صالح ] عقبات كثيرة يصعب تجاوزها ..إذ لم يكن التغير الجذري بالأمر الهين .. فلقد عاش في أكثر البيئات سلبية بين أبوين وإخوة عوام .. لا يكاد أحدهم يعرف من العلوم الشرعية أو الدنيوية شيئاً يميزه ..
كان أعظم الحواجز أمامه حاجز اللغة العربية .. فلقد كان يشعر بالنقص أمام زملائه وهو يتحدث إليهم .. فلغته العربية ركيكة جداً .. فضلاً عن أن يحاول التحدث في النحو أو يعرب بيتاً أو حتى كلمة من مقال ..
وكم كان يحس بالحرج الشديد حين يطلب منه المعلم القراءة .. فيحاول جاهداً .. لكن [ الخرق ] أعظم من [ الرقع ] ..
ذات يوم ..
كان [ صالح ] جالساً مع نفسه .. قد أخرج ورقة وأخذ يسجل جوانب النقص لديه .. مباشرة كتب : النحو واللغة العربية ..
ثم أخذ يفكر ..
تذكر أنه مرة اختلف هو وصاحب له في المسح على الخفين للمسافر .. ثم مر على ذهنه ذلك الموقف الذي لا يكاد ينسى ..
فلقد سأل المعلم عن القصر في السفر .. فأجاب بأن صلاة المغرب تقصر إلى ركعتين .. فلم يكمل الجملة حتى عم الضحك الفصل ..
لقد كان موقفاً محرجاً .. ( تمنيت أني لم أنطق .. بل لم أحضر ذلك اليوم ) ..
فكر ..
كيف لي أن أطور نفسي في هذا ..
تذكر أن هناك درساً في الجامع الكبير في الحي المقابل .. يلقي فيه أحد كبار العلماء درساً ميسراً في فقه الطهارة والصلاة ..
وبعد العشاء .. حمل دفتره .. وانطلق إلى الجامع ..
وفي الجامع : كان الجميع قد تحلّق حول الشيخ .. في منظر مهيب .. ( يا لله .. أجلوا الله فأجلهم .. ) .. قالها [ صالح ] وهو يدلف داخلا ..
وبعد الركعتين .. جلس عند الشيخ .. وبدأ مشواره مع طلب العلم ..
ومرت الأيام ..